الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
كقول بعضهم: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} أي جئناهم بهم: وأتحناهم لهم.وكقول بعضهم: {وَقَيَّضْنَا} أي هيأنا.وقول بعضهم: {وَقَيَّضْنَا} أي سلطنا.وقول بعضهم: أي بعثنا ووكلنا.وقول بعضهم: {وَقَيَّضْنَا} أي سببنا.وقول بعضهم: قدرنا ونحو ذلك من العبارات، فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ويزينون لهم الكفر والمعاصي وقدرهم عليهم.والقرناء: جمع قرين وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق.وقوله: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الأخرة: {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث.وما تضمنته هذه الآية الكريمة، أنه تعالى قيض للكفار قرناء من الشياطين، يضلونهم عن الهدى، بينه في مواضع أخر من كتابه.وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم، وأنهم مع إضلالهم لهم، يظنون أنهم مهتدون، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم، وأنه يذمه ذلك اليوم كما قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حتى إِذَا جَاءَنَا قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين} [الزخرف: 3638].فترتيبه قوله: نقيض له شيطانًا، على قوله ومن يعش عن ذكر الرحمن، ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له، هو غفلته عن ذكر الرحمن.ونظير ذلك قوله تعالى: {مِن شَرِّ الوسواس الخناس} [الناس: 4] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم: خنس بالفتح يخنس بالضم إذا تأخر.فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمن، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، ودل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99100] لأن الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم.ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم، قوله تعالى: {أَنَّا أرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {أَنَّا أرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} الآية. وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}.وبينا أيضًا هناك أن من الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس} [الأنعام: 128] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا، وقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202].ومنها أيضًا قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} [يس: 60] إلى قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا} [يس: 62] إلى غير ذلك من الآيات.وقد دل قوله في آية الزخرف: {فَبِئْسَ القرين} [الزخرف: 38] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت، وآية الزخرف وغيرهما، جديرين بالذم الشديد، وقد صرح تعالى بذلك في سورة النساء في قوله: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قِرِينًا} [النساء: 38] لأن قوله: {فَسَاءَ قِرِينًا} بمعنى {فَبِئْسَ القرين}، لأن كلا من ساء وبئس فعل جامد لإنشاء الذم كما ذكره في الخلاصة بقوله:
واعلم أن الله تعالى بين أن الكفار الذين أضلهم قرناؤهم من الشياطين يظنون أنهم على هدى، فهم يحسبون أشد الضلال، أحسن الهدى، كما قال تعالى عنهم: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 37] وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالًا في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103104].وقوله تعالى في سورة الزخرف: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن} [الزخرف: 36] من قولهم عشا بالفتح عن الشيء، يعشو بالضم إذا ضعف بصره عن إدراكه، لأن الكافر أعمى القلب.فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين.قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} الآية.قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ} [يس: 7] الآية.قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} الآية.وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا} [البقرة: 93].{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} ما تضمنته هذه الآية الكريمة مما أعده الله في الآخرة للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، ذكره الله تعالى في الجملة، في قوله في الأحقاف {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 1314] لأن انتفاء الخوف والحزن والوعد الصادق، بالخلود في الجنة المذكور في آية الأحقاف هذه، يستلزم جميع ما ذكر في هذه الآية الكريمة، من سورة فصلت.قوله تعالى: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} قد أوضحناه مع الآيات التي بمعناه في آخر سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف} [الأعراف: 199] إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار} الآية.وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.قوله تعالى: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} الآية.قد قدمنا الكلام عليه في سورة النمل، في الكلام على قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] الآية.قوله تعالى: {فَإِنِ استكبروا} أي فإن تكبر الكفار عن توحيد الله، والسجود له وحده، وإخلاص العبادة له، فالذين عند ربك وهم الملائكة، يسبحون له بالليل، أي يعبدونه وينزهونه دائمًا ليلًا ونهارًا وهم لا يسأمون، أي لا يملون من عبادة ربهم، لاستلذاذهم لها وحلاوتها عندهم، مع خوفهم منه جل وعلا كما قال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13].وقد دلت هذه الآية الكريمة من سورة فصلت على أمرين:أحدهما: أن الله جل وعلا إن كفر به بعض خلقه، فإن بعضًا آخر من خلقه يؤمنون به، ويطيعونه كما ينبغي، ويلازمون طاعته دائمًا بالليل والنهار.والثاني منهما: أن الملائكة يسبحون الله ويطيعونه دائمًا لا يفترون عن ذلك.وهذان الأمران اللذان دلت عليهما هذه الآية الكريمة، قد جاء كل منهما موضحًا في غير هذا الموضع.أما الأول منهما: فقد ذكره جل وعلا في قوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].وأما الثاني منهما: فقد أوضحه تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى في الأنبياء: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 1920] وقوله تعالى في آخر الأعراف: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] إلى غير ذلك من الآيات.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] أي لا يملون.والسآمة الملل ومنه قول زهير: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَا أنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} الآية.هذه الآية الكريمة قد أوضحنا الكلام عليها، مع ما في معناها من الآيات، وبينا أن تلك الآيات فيها البرهان القاطع على البعث بعد الموت، وذكرنا معها الآيات التي يكثر الاستدلال بها في القرآن، على البعث بعد الموت، وهي أربعة براهين قرآنية.ذكرنا ذلك في سورة البقرة وفي سورة النحل وغيرهما وأحلنا عليه مرارًا.قوله تعالى: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِنًا يَوْمَ القيامة}.قد قدمنا الكلام عليه، مع ما يماثله من الآيات، في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] الآية. اهـ. .تفسير الآيات (43- 46): قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما وصف الذكر بأنه لا يصح ولا يتصور أن يلحقه نقص، فبطل قولهم {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} ونحوه مما مضى وحصل الأمن منه، أتبعه التسلية مما يلحق به من الغم ليقع الصبر على جميع أقوالهم فقال: {ما يقال لك} أي يبرز إلى الوجود قوله سواء كان في ماضي الزمان أو حاضره آو آتيه من شيء من الكفار أو غيرهم يحصل به ضيق صدر أو تشويش فكر من قولهم {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} إلى آخره.وغير ذلك مما تقدم أنهم قالوه له متعنتين به {إلا ما} أي شيء {قد قيل} أي حصل قوله على ذلك الوجه {للرسل} وأن لم يقل لكل واحد منهم فإنه قيل للمجموع، ونبه على أن ذلك ليس لمستغرق للزمان بل تارة وتارة بإدخال الجار في قوله: {من قبلك} ولما حصل بهذا الكلام ما أريد من التأسية، فكان موضع التوقع لهم أن يحل بهم ما حل بالأمم قبلهم من عذاب الاستئصال، وكان- صلى الله عليه وسلم- شديد الشفقة عليهم والمحبة لصلاحهم، سكن سبحانه روعه بالإعلام بأن رحمته سبقت غضبه فقال مخوفًا مرجيًا لأجل إنكار المنكرين: {إن} وأشار إلى مزيد رفعته بذكر صفة الإحسان وإفراد الضمير فقال: {ربك} أي المحسن إليك بارسالك وإنزال كتابه إليك، ومن أكرم بمثل هذا لا ينبغي له أن يحزن لشيء يعرض {لذو مغفرة} أي عظيمة جدًا في نفسها وزمانها ومكانها لمن يشاء منهم، فلا يقطع لأحد بشقاء.ولما رغبهم باتصافه بالمغفرة، رهبهم باتصافه بالانتقام، وأكد باعادة {ذو} والواو فقال: {وذو عقاب} والختم بما رويه الميم مع تقديم الاسم الميمي في التي قبلها دال للأشعري الذي قال بأن الفواصل غير مراعية في الكتاب العزيز، وإنما المعول عليه المعاني لا غير، والمعنى هنا على إيلام من كانوا يؤلمون أولياءه باللغو عند التلاوة الدالة على غاية العناد، فلذلك قدم حكيم، ولم يقل شديد، وقال: {أليم} أي كذلك، فلا يقطع لأحد نجاة إلا من أخبر هو سبحانه بإشقائه أو إنجائه، وقد تقدم فعله لكل من الأمرين أنجى ناسًا وغفر لهم كقوم يونس عليه الصلاة والسلام، وعاقب آخرين، وسيفعل في قومك من كل من الأمرين ما هو الأليق بالرحمة بإرسالك، كما أشار إليه ابتداؤه بالمغفرة، فالآية نحو: إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، ولعله لم يصرح هنا تعظيمًا للقرآن الذي الكلام بسببه.ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم {فلوبنا في أكنة} إلى آخره، وكان ربما قال قائل؛ لو كان بلسان غير العرب، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تبيينه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع، أخبر أن الأمر ليس كذلك، لأنهم لم يقولوا: هذا الشك حصل لهم في أمره، بل عنادًا، والمعاند لا يرده شيء، فقال على سبيل التأكيد، معلمًا بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان، وقال الأصبهاني: إنه جواب عن قولهم {وقالوا قلوبنا في أكنه}.والأحسن عندي أن يكون عطفًا على {فصلت آياته قرآنًا عربيًا} وبناه للمفعول لأنه بلسانهم فلم يحتج إلى تعيين المفصل، فيكون التقدير: فقد جعلناه عربيًا معجزًا، وهم أهل العلم باللسان، فأعرضوا عنه وقالوا فيه ما تقدم، ولفت القول عن وصف الإحسان الذي اقتضى أن يكون عربيًا إلى مظهر العظمة الذي هو محط إظهار الاقتدار وإنفاذ الكلمة {ولو جعلناه} أي هذا الذكر بما لنا من العظمة والقدرة {قرآنًا} أي على ما هو عليه من الجمع {أعجميًا} أي لا يفصح وهو مع ذلك على وجه يناسب عظمتنا ليشهد كل أحد أنه معجز للعجم كما أن معجز للعرب وأعطيناك فهمه والقدرة على إفهامهم إياه {لقالوا} أي هؤلاء المتعنتون فيه كما يقولون في هذا بغيًا وتعنتًا: {لولا} أي هلا ولم لا {فصلت آياته} أي بينت على طريقة نفهمها بلا كلفة ولا مبين، حال كونه قرآنًا عربيًا كما قدمنا أول السورة.ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة الحكيم الودود، وأنهم يقولون في الأعجمي الصرف، لم يبق إلا المختلط منهما المنقسم إليهما، فقال مستأنفًا منكرًا عليهم للعلم بأن ذلك منهم مجرد لدد لا طلبًا للوقوف على سبيل الرشد: {أعجمي} أي أمطلوبكم أو مطلوبنا- على قراءة الخبر من غير استفهام- أعجمي {وعربي} مفصل باللسانين، والأعجمي كما قاله الرازي في اللوامع: الذي لا يفصح ولو كان عربيًا والعجمي من العجم ولو تفاصح بالعربية.
|